الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أي: تصون الحديث وتَخزُنه، فهو كقول الشَّنْفَرَى: أي: تقطع حديثها حياء وخفرًا. واعتدل في هذا الموضع ذو الرمة، قال: وما أظرف قوله: رخيم الحواشي؛ أي: لا تنتشر حواشيه فتهرأ فيه، ولا يضيق عما يُحتاج من مثلها إليه للسماع والفكاهة؛ لكنه على اعتدال، وكما يُستحسن ويستعذب من التِّقال، ألا ترى إلى قول الآخر: ومنه: أي: تارة تورد القول صائبًا مسددًا، وأخرى تُحرف فيه وتلحن؛ أي: تعدل عن الجهة الواضحة معتمدة لذلك تلعُّبا بالقول، وهو من قوله عليه السلام: «فلعل أحدكم يكون ألحن بحجته»؛ أي: أنهض بها وأحسن تصرفًا فيها. وليس من اللحن الذي هو إفساد الإعراب، ذلك حديث غير هذا، وقد تقصيت هذا المذهب في الخصائص، فليُطلب هناك.ومن ذلك ما رواه عيسى بن ميمون عن الحسن أنه قرأ: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عُشًا يَبْكُونَ}، قال: عُشْوًا من البكاء.قال أبو الفتح: طريق ذلك أنه أراد جمع عَاشٍ، وكان قياسه عُشاةً كماشٍ ومُشاة، إلا أنه حذف الهاء تخفيفًا وهو يريدها، كقوله: أراد: مأْلُكَة، فحذف الهاء. وقد تقصينا ذلك في أماكن من كتبنا، وفيه بعد هذا ضعف؛ لأن قَدْرَ ما بَكَوْا في ذلك اليوم لا يعشو منه الإنسان.ويجوز أن يكون جمع عِشْوة: أي ظلامًا، وجمَعه لتفرِّق أجزائه كقولهم: مُغَيْربانَات وأُصَيْلَال، ونحو ذلك.ومن ذلك قراءة الحسن أيضًا: {بِدَمٍ كَدِبٍ} بالدال.قال أبو الفتح: أصل هذا من الكَدَب؛ وهو الفُوفُ؛ يعني: البياض الذي يخرج على أظفار الأحداث فكأنه دم قد أثَّر في قميصه فلحقته أعراض كالنقش عليه. وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بهذه القراءة أيضًا.ومن ذلك قراءة أبي الطفيل والجحدري وابن أبي إسحاق ورُويت عن الحسن: {يَا بُشْرَيَّ}.قال أبو الفتح: هذه لغة فاشية فيهم، ما رويناه عن قطرب من قول الشاعر: ونظائره كثيرة جدًّا.وقال لي علي: إن قلب هذه الألف لوقوع الياء بعدها ياء؛ كأنه عوض مما كان يجب فيها من كسرها لياء الإضافة بعدها؛ ككسرة ميم غُلَامِي وياء صاحبي ونحو ذلك، ومَن قلب هذه الألف لوقوع هذه الياء بعدها ياء لم يفعل ذلك في ألف التثنية، نحو: غلاماي وصاحباي؛ كراهة التباس المرفوع بالمنصوب والمجرور.فإن قيل بعد: وهلا قلبوها وإن صار لفظ ما هي فيه إلى لفظ المجرور كما صار لفظ المرفوع والمنصوب جميعًا إلى لفظ المجرور في نحو: هذا غلامي؛ ورأيت غلامي، قيل: قَلْبُ الألف لوقوع الياء بعدها ياء أغلظ من قلب الضمة والفتحة حيث ذَكرْت كسرة؛ وذلك أن الجناية على الحرف أغلظ من الجناية على الحركة، فاحتُمل ذلك في: هذا غلامي ورأيت غلامي، ولم يُحتمل نحو: هذان غلامَيّ وما جرى مجراه.فإن قيل: فالذي قال: {يا بُشْرَيَّ} قد جنى على الألف بقلبها ياء، قيل: هذه الألف يمكن أن تقدَّر الكسرة فيها، وحرف التثنية لا تقدير حركة فيه أصلًا عندنا، فجائز أن تقول: {بُشْرَيَّ}، ولم يُقَل: قام غلامَيّ. فأما الحركة في ياء: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} فلالتقاء الساكنين، وهي غير محفول بها، والحركة قبل الياء من: {صَاحِبَي} ونحوه أقوى من حركة التقاء الساكنين، والكلام هنا يطول، لكن هذا مُتَوَجَّهُهُ.ومن ذلك: {هِئْتُ لك} بالهمز وضم التاء، قرأ بها علي عليه السلام وأبو وائل وأبو رجاء ويحيى، واختُلف عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وطلحة بن مُصَرِّف وأبي عبد الرحمن. وقرأ: {هَيْتِ لَكَ} بفتح الهاء وكسر التاء ابن عباس بخلاف وابن محيصن وابن أبي إسحاق وأبو الأسود وعيسى الثقفي. وقرأ: {هُيِّئْتُ لَكَ} ابن عباس.قال أبو الفتح: فيها لغات: هَيْتَ لك، وهِيتَ لك، وهَيْتُ لك، وهَيْتِ لك. وكلها أسماء سمي بها الفعل بمنزلة صَه ومَه وإيه في ذلك.ومعنى: {هَيْتَ} وبقية أخواتها: أَسْرِعْ وبادرْ، وقال: وقال طرفة: والحركات في أواخرها لالتقاء الساكنين.وأما: {هِئْتُ} بالهمز وضم التاء فَفِعْل، يقال فيه: هِئْتُ أَهِيءُ هيئة كجئت أجيء جيئة؛ أي: تهيأت. وقالوا أيضًا: هِئْتُ أَهَاءُ كخفت أخاف، هذا بمعنى خذ. قال: أي: خذي السيف.فأما قول الله تعالى: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ}، فحديث غير هذا وتصريف سواه، وفيه طول. وقد ذكرناه في كتاب الخصائص.وأما: {هُيِّئْتُ لك} ففعل صريح كهِئْتُ لك، كقولك: أُصْلِحْتُ لك؛ أي: فدونك، وما انتظارك؟ واللام متعلقة بنفس هَيْتَ وهَيْتِ وهِيتَ وهَيْتُ كتعلقها بنفس هلم من قولهم: هَلُمَّ لك، وإن شئت كانت خبر مبتدأ محذوف؛ أي: إرادتي لذلك.
|